العمارة الحديثة تجتاح البناء الفلسطيني العريق


نشر بتاريخ: 26-04-2016

عندما تجوب شوارع مدننا وتلقي نظراتك على أحد الأحياء سترى صراع العراقة والحداثة متجسداً في أشكال البناء ومكوناته، فترى بيتاً قديماً يصافح الشمس خجلاً أمام عمارة ضخمة، ولعل شارعاً قديماً قد جهل هويته كبار السن لما ألم به من تغيرات، أو سوقاً قديمة لم يبق من أصالتها غير اسمها الذي علق في أذهان المؤرخين. أجل، لقد استبدل ببيوت الطين والحجر مكعبات الإسمنت، وبجلسات الدالية والحاكورة كراسي البلاستيك والورد الصناعي، ولم نعد نرى سوى أبنية شاهقة مزينة بمناشير الغسيل وخزانات مياه ومكيفات تسلب منا الهدوء ونقاء الهواء، فهل حقاً قد اجتاحنا البناء الحديث وسلب عراقة مدننا؟
المباني القديمة التي يهددها البناء الحديث
تشير المهندسة في قسم الأبنية والموروث الثقافي في بلدية رام الله م. دعد الصيرفي إلى أن معظم المدن والقرى الفلسطينية تتميز بطابع عام من البناء القديم، فهو صفة تدل على تاريخ هذه المدن والقرى وتحدد هويتها، موضحة أن تطور المدن والتجمعات السكانية مع الزمن شيء طبيعي في أي مجتمع، غير أن القضية الأساسية تكمن في كيفية التعامل مع هذا التطور بالطريقة التي لا تشوه هوية التاريخ والبلدات القديمة القريبة من المواقع السكانية.

أسباب التوجه إلى البناء الحديث
توضح الصيرفي أسباب توجه الناس إلى البناء الحديث، قائلة: " بوجه عام يجهل معظم الناس أهمية هذا الموروث، لذا فهم يعتبرون هذا التراث بناء متهالكاً لا يخدم تطلعات الإنسان المعاصر واحتياجاته، بسبب افتقاره إلى تلك المتطلبات التي يوفرها البناء الحديث. ثم إن الطمع في استغلال الأرض التي تقوم عليها تلك المباني التاريخية بسبب ارتفاع سعرها في بعض المدن والتجمعات السكانية، كمدينة رام الله مثلاً، جعل بعض أصحابها يفكرون بهدمها لبناء عمارة سكنية حديثة يجنون من ورائها المال الكثير، فذاك-وفق رؤيتهم-خير من بناء قديم لا طائل منه".

الاستثمار الأفضل:
تقول الصيرفي: "إن الاستثمار في بناء العمارات ليس بأفضل من ترميم البيوت القديمة"، مركزةً على ضرورة التفكير في طرق أخرى للاستثمار مع الحفاظ على هذا الموروث التاريخي.
وتوضح أن استعمال المباني القديمة وطريقة الاستثمار فيها يعتمد على العديد من العوامل مثل: طبيعة المبنى، وتكوينه، وحجمه، وطبيعة توزيع الفراغات فيه، وموقعه في المدينة.
وتحث الصيرفي سكان البلدات القديمة على البقاء فيها، لأن ذلك يحميها ويطيل عمرها الافتراضي، أما المناطق المهجورة والأبنية المنفردة المنتشرة في المدينة فتقترح دراسة إمكانية إعادة استخدامها لأغراض سكنية أو سياحية، أو استصلاحها كمراكز ثقافية وتعليمية أو مقرات ومكاتب لبعض المؤسسات والوزارات، وهذا يحفظ لها كينونتها ودوامها. 

خطر البناء الحديث بات يلوح في الأفق
وشددت م. الصيرفي على ضرورة أن تعي البلديات والمؤسسات ذات العلاقة الخطر الذي يواجه البناء القديم، مؤكدةً أن الجهل به يشوه المباني القديمة ويدمرها، ويخفي جزءاً كبيراً من هذا الموروث العمراني، تقول: "إذا استمر بناء العمارات السكنية الجديدة على أنقاض البناء القديم فنحن أمام خطر يهدد هويتنا ويحيل مدننا كتلاً إسمنتية ضخمة تربض فوق تاريخنا"، ثم أكدت دور البلديات والمؤسسات في فرض القيود وإيجاد آليات واضحة حول كيفية البناء وأسلوبه في المناطق التاريخية أو المناطق المحاذية لها.

القوانين والتشريعات
في أثناء الحديث عن كيفية التعامل مع المباني التاريخية في ظل غياب نظام خاص يتعامل مع ذلك، تنوه م. الصيرفي بقصور نظام الأبنية والتنظيم للهيئات المحلية رقم (5) لعام 2011م (نظام الحكم المحلي عام 2011م) في الجانب المتعلق بحماية المباني التاريخية وآلية التعامل معها، مشيرة إلى أن الموروث العمراني في مدينة رام الله يقسم بشكل رئيس إلى قسمين: البلدة القديمة، والمباني التاريخية المنفردة الواقعة خارج حدود البلدة القديمة. ثم أوضحت أن البلدية أجرت دراسة حول تصنيف المباني المنفردة وفق معايير القيمة الجمالية، والقيمة التاريخية والاجتماعية، ومدى الندرة والأصالة، وغيرها من القيم الأخرى، وبناءً على هذا تحدد طبيعة التعامل مع المبنى من حيث الإضافات المسموحة، أو الترميم، أو الهدم، أو غير ذلك. أما ما يتعلق بالبلدة القديمة فتقول الصيرفي: "في نهاية صيف 2014م أنجزنا مشروعاً مشتركاً مع مركز "رواق"، ركز على البلدة القديمة ومكوناتها التاريخية ونسيجها العمراني، وخرجنا بدراسة كاملة عن طبيعة المباني ومواصفاتها ووضعها وماهية ما تحتاجها، فوصلنا إلى مخرجين أساسيين لهذا المشروع هما: دليل الحفاظ على المركز التاريخي في رام الله، وقائمة للمشاريع المقترحة خلال خمس سنوات آتية".
أما ما يتعلق بالأحكام والقوانين فتوضح الصيرفي أن البلدية وضعت أحكاماً مقترحة خاصة بالبلدة القديمة والمباني المنفردة ثم رفعتها للمصادقة عليها من قبل وزارة الحكم المحلي، وبعد اطلاع الوزارة عليها أعادتها للبلدية بغية دراستها مرة أُخرى، وهي الآن قيد الدراسة والصياغة من جديد.

مشاريع البلدية في هذا السياق
ذكرت م. الصيرفي جملة مشاريع نفذتها بلدية رام الله وأخرى قيد التنفيذ، تهدف كلها إلى حماية البناء القديم وإعادة إحيائه، منها مشروع "حوش قندح" في البلدة القديمة الذي سيشغّل منتصف هذا العام، ومشروع "دار الصاع" وهو الآن في مراحله النهائية، بالإضافة إلى مبنيين مشغلين هما: مبنى المحكمة العثمانية ومبنى الاستعلامات السياحية.
وبينت الصيرفي أنه وبناء على الدراسة المتعلقة بالمباني التاريخية المنفردة (الواقعة خارج حدود البلدة القديمة)  فقد صُنفت هذه حسب الأهمية إلى قسمين: المباني التاريخية المنفردة المصنفة (أ)، وهي مبان ممنوعة من الهدم مع فرض قيود على الإضافات المقترحة عليها بحيث لا تتجاوز ما نسبته (20%) من مساحة البناء القديم بغية توفير الخدمات لها فقط، مع ضمان عدم تغطية واجهاتها الرئيسة، ويبلغ مجموعها الكلي نحو (75) مبنى، أما المباني التاريخية المنفردة المصنفة (ب) فهي مبان ذات قيود أخف من تلك المفروضة على القسم الأول.

درجة الخطورة على رام الله
حذرت م. الصيرفي من وجود خطر حقيقي يهدد البناء القديم في رام الله، قائلة: "ثمة أشخاص لا يهمهم البناء التاريخي، فوجه الاستثمار لدى كثير من هؤلاء يتمثل في هدم الأبنية القائمة وبناء العمارات السكنية وتأجيرها أو بيع شققها، وهذا يعد تهديداً للمباني القديمة، خاصة إذا ما طمع مالكها بجني مزيد من المال جراء ذلك"، وتعقب: "في الوقت ذاته، لا ننكر تزايد الوعي لدى كثير من الناس حول أهمية الحفاظ على المباني القديمة".

دور البلدية
للبلدية دور في توعية الناس حول أهمية المحافظة على المباني القديمة والدعوة إلى استصلاحها ما أمكن، لكن المشكلة تكمن في المالك المقدم على هدم المباني التاريخية، في هذا تقول الصيرفي: "بصفتنا بلدية، نأخذ على عاتقنا منع هدم المباني المحمية، ولكن نرى بعض الحالات ما زالت معلقة في المحاكم، لأن بعض المالكين يلجأون إلى المحاكم بغية استئناف قرار البلدية القاضي بمنع الهدم، ولأننا نعاني عدم وجود قانون مصادق عليه لحماية تلك المباني، فقد أخذنا على عاتقنا تنفيذ الحماية".
وأشادت الصيرفي بدور البلدية في توعية أهل رام الله المقيمين خارج الوطن، وذلك من خلال مؤتمر أبناء رام الله السنوي المقام في المدينة، مشيرة إلى أن البلدية تسيّر جولات داخل البلدة القديمة، لتوجه هؤلاء وتشجعهم على ترميم البيوت وإصلاحها، هذا بالإضافة إلى العديد من الفعاليات الموسمية المجتمعية التي تنفذ في منطقة البلدة القديمة بهدف إحيائها، مثل "سوق الحرجة" و"نوار نيسان".