مجد الريماوي..."النطفة" التي تسلمت شهادة البكالوريوس من "القدس المفتوحة"!


نشر بتاريخ: 21-09-2021

 رغم ألم الأسر غير أن عبد الكريم سميح الريماوي (43) عاماً من سكان بلدة بيت ريما بمحافظة رام الله والبيرة والذي يمضي حكماً احتلالياً في الأسر لمدة (25) عاماً انقضى منها أكثر من (20) عاماً، تمكن من تحقيق حلمين وهو داخل الأسر، الأول تمكين زوجته من إنجاب طفلهما الثاني (مجد) بعد تهريب نطفة من داخل الأسر، والثاني إكمال دراسته الجامعية وحصوله على درجة البكالوريوس في أساليب تعليم الاجتماعيات من جامعة القدس المفتوحة بعد التحاقه ببرنامج خاص بتعليم الأسرى أطلقته الجامعة بالتعاون مع هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وشاء الله أن يصعد ابنه مجد الذي خرج نطفة من الأسر إلى منصة التخريج ليتسلم الشهادة نيابة عن والده الأسير.

قصة ثاني نطفة من السجون

تروي ليديا الريماوي، زوجة الأسير عبد الكريم الريماوي، قصة ميلاد ابنهما مجد قبل ثماني سنوات بعد تهريب نطفة من داخل السجون هي الثانية من نوعها في تاريخ الحركة الأسيرة.

تقول ليديا إن الحمل بمجد كان يمثل لها تحدياً كبيراً، فقد رغب عبد الكريم بإنجاب أطفال لكن اعتقال الاحتلال له وهو في سن مبكرة، حرمه من إنجاب طفل آخر بعد ميلاد ابنتهما رند التي اعتقل والدها وهي في الشهر الثامن من عمرها.

وتضيف: "تهريب نطفة لم يكن وارداً في خاطري بعد مرور (12) عاماً على اعتقاله، فهذا أمر صعب المنال، لكن سمعت ذات مرة عبر الإذاعة وأنا ذاهب إلى العمل بالسيارة بأن زوجة الأسير عمار الزبن أنجبت ابناً عن طريق النطف المهربة، فانتابني إحساس غريب وبدأت بالبكاء".

أخبرت ليديا زوجها الأسير بفكرة إنجاب طفل ثان عن طريق النطف، فوافق عبد الكريم على خوض التجربة، مشيرة إلى أنها أخبرت والدة زوجها بالفكرة فشجعتها على تنفيذها، قائلة: "حينما أحضرنا النطف أخبرنا إمام المسجد في البلدة بذلك، وخلال خطبة الجمعة أبلغ الناس بأني سأقوم بزراعة أجنة، حتى لا يستغربوا إذا ما رأوني حاملاً، وقد تقبل الأهالي الفكرة ودعموني"، منوهاً بأن تهريب النطف تم بعد الزيارة الأولى وفي ظل وجود شاهدين، وحين العودة من الزيارة توجهت إلى المركز المختص وتبين أن النطفة سليمة وتمت عملية الزراعة.

تؤكد ليديا أنه حينما حصل الحمل غمرتها فرحة لا يمكن وصفها، قائلة: "كلما أذهب للعيادة لفحص الجنين وأسمع دقات قلبه، أبدأ بالبكاء فرحة تارة، وأحزن تارة أخرى، لأني كنت أرغب بأن يكون عبد الكريم معي في هذا الموقف، ويعيش هذه اللحظات".

وحول هذه التجربة، تقول ليديا: "تربية الأطفال في ظل غياب الأب بسبب الأسر صعبة جداً، حينما اعتقلوا عبد الكريم كان عمر رند شهوراً، وواجهت صعوبات كبيرة، ورغم أنني أعيش مع أهل زوجي الذين لم ينفكوا عن مساعدتي، غير أن البنت كانت تكبر بعيداً عن أبيها". وتابعت: "في أول مرة ذهبت فيها رند إلى المدرسة عادت تبكي، وحينما سألتها عن السبب، أخبرتني بأن زميلاتها يسألنها عن سبب عدم مجيء أبيها لأخذها من المدرسة، فكانت تسأل دوماً عن سبب غيابه عن البيت".

لم يعلم عبد الكريم بحمل زوجته إلا بعد مرور ثلاثة أشهر بعد انقطاع عن الزيارة جراء ظروف الحمل، وحينما ولد مجد كانت الساعة السابعة صباحاً، لكن عبد الكريم وصله الخبر في ساعات المساء.

تقول ليديا: "أنجبت الساعة السابعة صباحاً، ووصله الخبر الساعة الثامنة مساء، زملاؤه الأسرى بدأوا يقرعون باب غرفته ليخبروه بأن مجد قد رأى النور، وقد عمت الفرحة داخل الأسر وفي البلد".

حلم إكمال التعليم

حينما اعتقلت قوات الاحتلال عبد الكريم في العام 2001، كان طالباً في تخصص الإعلام في سنته الأخيره بجامعة بيرزيت، غير أن ظروف الأسر حالت دون تمكينه من إكمال تعليمه، فحاول عدة مرات الالتحاق بالجامعة العبرية، لكن الاحتلال رفض طلبه لأسباب ادعى بأنها أمنية، إلى أن تمكنت جامعة القدس المفتوحة بالتعاون مع هيئة الأسرى والمحررين ووزارة التعليم العالي من إطلاق برنامج لتدريس الأسرى داخل السجون قبل سنوات عدة.

تقول ليديا: "حينما تمكنت جامعة القدس المفتوحة من افتتاح برنامج للأسرى داخل السجون، كان عبد الكريم من أوائل المسجلين".

ووجهت شكرها لجامعة القدس المفتوحة على هذه الخطوة المتقدمة التي أتاحت لعبد الكريم وللأسرى إكمال مسيرتهم التعليمية، قائلة: "كل الجامعات أغلقت أبوابها في وجه الأسرى إلا جامعة القدس المفتوحة، وهذه خطوة تستحق التقدير لأنها تمكن الأسير من الحصول على شهادة قد يستفيد منها حينما يتم الإفراج عنه، ليكمل حياته بكرامة".

في حفل تخريج الجامعة للفوجين الثالث والعشرين والرابع والعشرين (فوج الأغوار) خرجت الجامعة (422) أسيراً من الضفة الغربية وقطاع غزة، منهم من أفرج عنه، ومنهم مازال داخل الأسر. كان من بين الخريجين عبد الكريم، وحينما نودي على اسمه، صعد ابنه مجد، الذي شاء الله أن يخرج نطفة من السجن قبل ثماني سنوات، إلى منصة التخريج ليتسلم الشهادة نيابة عن أبيه الأسير وسط فرحة عارمة لكافة أفراد الأسرة ولكافة الحضور، لتقوم محافظة رام الله والبيرة الدكتورة ليلى غنام باحتضانه، قائلة: "النطف التي خرجت من الأسر رغم أنف هذا السجان تقف اليوم أمامكم لتحكي رسالة لكم جميعاً".

وكان برنامج تعليم الأسرى انطلق في العام 2015 بعد سنوات طويلة من المحاولة، وخرّجت الجامعة حتى نهاية الفصل الصيفي من العام الجامعي (2020-2021) قرابة (550) خريجاً من أصل (1200) ملتحقين بالبرنامج الذي يضم ثلاثة تخصصات هي: الخدمة الاجتماعية، وأساليب تدريس الاجتماعيات، وأساليب تدريس التربية الإسلامية. وتدرس هذه التخصصات في ستة سجون، منها: سجن خاص بالأسيرات. كما أطلقت "القدس المفتوحة" مؤخراً تخصصين في درجة الماجستير مخصصين للأسرى، وهما: تعليم الاجتماعيات، والخدمة الاجتماعية.

 "اهتمام" خاص بمجد... ولكن!

التقى مجد أباه للمرة الأولى وعمره عام ونصف العام، الفطرة وحدها قادت الطفل ليلعب مع أبيه الذي احتضنه طويلاً دون أن يستغرب من المشهد. تقول ليديا: "كان اللقاء الأول مؤثراً، وتملك مجداً الكثير من المشاعر، لكن الولد لعب مع أبيه بالفطرة".

يقول مجد: "أذكر كل مرة أزور فيها أبي"، قائلاً: "حكيت معه كتير، اِلعبت معه في (ريموت) وحكينا مع بعض، ظل يحكيلي اهتم بدراستك وتغلبش أمك". 

يقول عبد الحليم زيدان، معلم اللغة العربية في مدرسة "رواد الغد" ببلدة بيت ريما بمحافظة رام الله والبيرة، التي يدرس فيها مجد: "لمجد مكانة خاصة على مستوى البلد، لأنه الطفل الوحيد الذي ولد عن طريق النطف المهربة لوالد معتقل لأكثر من عشرين عاماً".

يبين زيدان أن مجد يحيا في المدرسة كباقي الأطفال، يتعلم ويلعب، ولكن هناك ما يكتنزه في صدره، قائلاً: "أولياء الأمور يترددون على المدرسة باستمرار، مجد يلاحظ الآباء وهم يحتضون أطفالهم داخل المدرسة، هذا بالتأكيد سيترك أثراً عظيماً على نفسيته". ويضيف: "نحن، معلمين ومعلمات، نغمره بحناننا تعويضاً عما يفتقده، ولكن لا شيء على مستوى العالم يمكن أن يعوض الأب".

البنت على خطى الأب

لم يكن عمر رند حينما اعتقل والدها قد تجاوز الأشهر الثمانية الأولى، كبرت على وقع أنها بنت أسير، وكثير من التفاصيل كانت تنقصها لتشكل كل معالم الصورة سواء في مرحلة الطفولة أو الشباب، ومثلت قسوة تجربة الحياة بعيداً عن الأب نقطة ارتكاز لبناء شخصية قوية واثقة.

تفوقت رند في دراستها وحصلت في الثانوية العامة على معدل (92%)، وآثرت أن تدرس الإعلام في جامعة بيرزيت لتكمل حلم والدها قبل اعتقاله.

تقول رند: "كان بإمكاني الالتحاق بأي تخصص آخر، لكن آثرت هذا التخصص الذي كان والدي يرغب في إنهائه، ولكن اعتقاله في العام الأخير من دراسته حال دون ذلك، لقد دونت اسمي ثلاث مرات في سجلات المتفوقين".

تضيف: "تم اعتقال والدي وعمري (8) أشهر، لم أكن واعية، تربيت على زيارة السجون وعلى الرسائل التي كان يرسلها لي، ويسأل فيها عن أدق تفاصيل حياتي، وهذا ملخص علاقتي به كأب".

وتتابع: "كانت كثير من الأسئلة تدور في رأسي، لماذا أبي في السجن؟ لماذا أعيش بلا أب؟ أجوبة هذه الأسئلة شكلت شخصيتي وجعلتني أكون قريبة من أبي بعد معرفة هذه التفاصيل".

تعدّ رند الأيام وكأنها سنوات، انتظاراً للحظة الإفراج عن والدها، قائلة: "ننتظر اللحظة التي ينتهي فيها زمن الزيارات سواء لنا أو لكل أهالي الأسرى، فلحظة الإفراج هي اللحظة التي نعيش من أجل أن نحياها، ولا أعرف كيف سيكون وضعي حينها".

أما عن علاقتها بشقيقها مجد، فتقول: "الفارق بيني وبين مجد (13) سنة، وهو فارق ليس بقليل، المرحلة اللي كنت أعيشها وأنا طفلة عاد مجد ليعيشها حالياً، الإلحاح على الأسئلة خاصة أنه وُلد عن طريق النطف ولم تكن ولادته بالشكل الطبيعي، ما يفرض علينا ضرورة توفير أجوبة دائمة لأسئلته"، مشيرة إلى أن مجد كوّن صورة كاملة عن أبيه، وعن سبب اعتقاله، وأصبح ملماً بكل التفاصيل.

مجد... "هذا الشبل من ذلك الأسد"

لحظة الإعلان عن تخريج الأسير عبد الكريم الريماوي لم تكن عادية، فتلك النطفة التي خرجت من السجن ها هي تكبر، ويكبر معها الحلم ليتسلم مجد الشهادة الجامعية نيابة عن والده الأسير وسط تصفيق من كل الحاضرين، تقول رند: "كانت تلك لحظة فياضة بالمشاعر، حينما صعد مجد لتسلّم الشهادة، بكينا فرحاً للوالد، ولكن غصة في القلب كانت حاضرة، إذ كنا نتمنى أن يكون الوالد بيننا، لكن يظل إنجازاً كبيراً تحقق وهو في الأسر، لذا نأمل أن يتسلم مجد في المرة المقبلة شهادة الماجستير برفقة والدي".

 وشكرت رند جامعة القدس المفتوحة لأنها قدمت للأسرى خيوطاً من الأمل ووفرت لهم فرصة التعليم داخل السجون، قائلة: "حق التعليم يعبر عن حالة من الاستمرارية والإنتاج المستمر للأسرى وأهاليهم، ويزرع الأمل في نفوسهم".

كما وجهت ليديا شكرها لجامعة القدس المفتوحة كونها الوحيدة بين الجامعات التي وقفت مع الأسرى ووفرت فرصة لهم لإكمال تعليمهم، قائلة إنها فضلت أن يقوم مجد ورند بتسلم شهادة أبيهما لأنها ترى بأنهما الأحق بحصد ثمرة هذا الإنجاز.

مجد تلميذ في الصف الثالث، بات يدرك حقيقة أن أباه يدفع فاتورة من حياته ثمناً لأنه ضحى من أجل فلسطين، وهو يدرك أن وجوده في هذه الحياة أصلاً تحد للسجان، يقلب صور أبيه كل يوم آملاً أن يكون يوم نيله الحرية قريباً، يحدق في المستقبل حالماً بأن يصبح طبيباً كي يعالج الناس، ربما لأن وجع السنين لا يداويها سوى طبيب ماهر.