الأسير المحرر سعيد التميمي يختار "القدس المفتوحة" للحاق بالمستقبل


نشر بتاريخ: 28-02-2015

في خضم الأحداث التي شهدتها الانتفاضة الأولى من قمع وترهيب وتنكيل، وأشهرها "سياسة تكسير العظام" يستذكر سعيد التميمي "قساوة الرأس" التي ولدتها ممارسات الاحتلال في ذاته، فكانت عنده منطلق النضال الوطني، فضلا عن الإرث المشرف باستشهاد والده في لبنان بعد شهرين من رؤية سعيد النور في قريته (النبي صالح).
شاب في العشرين من عمره، كان متوقعا منه أن يكمل حياته التعليمية ويرسم لحياته مسارا مهنيا، لكن الأحداث لوت عنق التوقع، فما هي إلا أيام قليلة يجاوز بها عامه العشرين حتى أصبحت سلاسل السجان مشهد حياة.
مشهد الشروق والغروب اليومي يصبح اعتياديا، فالزاوية المادية التي يرى الأسير من خلالها الشمس في حركتها اليومية تستمر مدة زمنية يقضيها في خيمته أو في ذلك المربع المكاني الذي يتموضع فيه.
سعيد ذلك الطفل الذي غيبت الأرض أباه، يحتفظ في عقله الباطني بصورة أمه التي مثلت له بوصلة الحياة فكانت له الأب والأم والمربي الذي يقف أمامه ويوفه التبجيل. 
الأحداث في الأسر متشابهة ومتماثلة حتى في مواعيد تنفيذها، وإن لم تكن كذلك فمألوفة بفعل الممارسة اليومية. مر سعيد سريعا في حديثه عما نيف العقدين من الأسر وكأني به يقول "لا تذكرني بها".
حال دخولنا غرفة المصعد، اتكأ إلى زاوية فيه متأملا متألما، كأن الطوابق الثلاثة التي صعدناها في ثوانٍ معدودات امتدت دهرا من الزمن، باغتني دون سؤال مني بأنه يكره المصاعد لأن عقله الباطني يربطها بالزنزانة التي قضى فيها أياما غير معدودة في الأسر.
سعيد في الأسر عايش حالة مستحيلة الوصف، متناقضة في مضمونها (اليتم الجميل) ففراق رفيق دربه نزار التميمي، أو كما وصفه سعيد "إنني أحبه أكثر من ذاتي"، أحدثت فيه حالة يتم جديد وجميل بكل المقاييس، ففقدان نزار من الحيز المكاني والمادي وغياب ضحكاته وصوته وصراخه داخل المعتقل أدخل سعيدا في يتم جديد، لكنه هذه المرة لذيذ حد النشوة، ذلك أنه (أي نزار) غادر هذا المكان المظلم ليحتضن النور في مستقبل جديد يتجاوز فيه زرقة السماء.
تذكر سعيد الأيام الأخيرة له في الأسر وتلك اللحظات ومناورات السجان التي رافقت تهيئته في عقد موعد مع الحرية، فما أن أعلن عن دفعات الأسرى القدامى حتى طفق يهيئ ذاته للخروج ضمن الدفعة الرابعة والأخيرة، كانت رياح التوقعات كما تهيأ لها سعيد، غادرت السجن الدفعتان الأولى والثانية من قبل، وظلت سفينة الأمل هادرة فيه بالرغم من أمواج اليهود المتطرفين ضد الإفراج عنهم.على مرمى يومين من الحرية تسمّر الأسرى في أماكنهم وسادت حالة من الصمت المطبق بانتظار سماع أسماء الأسرى المزمع الإفراج عنهم في الدفعة الثالثة، الكل ينتظر بفارغ الصبر لحظة البث المباشر التي سيذكر فيها وزير شؤون الأسرى عيسى قراقع الأسماء، "سعيد التميمي" وصرخ يكررها: "اسمي يا شباب اسمي يا...".
حالة لاوعي تنتابه، وشرع الأسرى يقبلونه تارة ويضربونه توددا تارة أخرى، أدخلوه ليستحم، تفننوا في أساليبهم تماما كأنه "حمام العريس" بالطريقة الموروثة.
في التاسع والعشرين من شهر كانون الأول للعام ألفين وثلاثة عشر، غادر سعيد السجن ليمكث وباقي الأسرى يومين آخرين في معتقل "عوفر" الاحتلالي، منتظرين اللحظة الحاسمة.
فجر الحادي والثلاثين من الشهر ذاته أقلت سعيدا ورفاقه مركبة لايعرفون وجهتها، سارت بهم مسافة (100م) أو تزيد ثم توقفت والصمت ينصب خيمته، ساعة جديدة من الانتظار-بل هي دهر-والتوقع يتعاظم بفشل إطلاق الدفعة، وفي لحظة فتحت الأبواب وأنزلوا من المركبة ليصعدوا أخرى ويأتي صوت السائق: "مساء الخير والحمد لله على سلامتكم ياشباب".
حالة الفرح الغامرة أنست سعيدا معنى الفرح والشعور به، توجهوا إلى مقر الرئاسة برام الله لتستقبلهم القيادة الفلسطينية بعد إنهاء المراسم، كان طلب سعيد الأول سماع صوت رفيقه نزار التميمي المقيم في الأردن. 
امتدت المكالمة الهاتفية طويلا حتى وصل سعيد إلى قريته في(النبي صالح) ليزور، لحظة وصوله، مقبرة القرية لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء وعلى من رحلوا مدة أسره.
وبعد أن فرغ سعيد من استقبال المهنئين في ديوان القرية مشىعلى نحو غير اعتيادي قاصدا منزل والدته الذي يبعد كثيرا، فهو لم يعتد مشيا مستقيما، إذ كادت تضاريس الطريق تخونه، فأسر عقدين اعتاد المشي فيهما وقت (الفورة) في باحة مربعة الشكل كفيل أن ينسيه المشية الطبيعية.
انحنى سعيد لتقبيل أقدام والدته كالطفل المتعطش لحنان أمه وحليبها، البكاء الممزوج بالصراخ انتاب اللحظة، ومن شدة التعب دخل إحدى الغرف وأقفل الباب واستلقى على السرير مغمضا عينيه، لم تتجاوز غفوته الساعة أو الساعة ونصف الساعة، ليفيق على زقزقة عصفور حط على أغصان شجرة الكينا المجاورة، لم يعتد شروقا مثل هذا، وها هو نزار الصغير (ابن أخيه)، الذي سمّي تيمنا برفيقه نزار التميمي، يلعب ويلهو، حينئذ تأكدأنه سيرى الشروق والغروب بصورة أخرى.
سعيد يبحث الآن عن ضالته ثم يجدها في جامعة القدس المفتوحة، بوابته نحو المستقبل، والمؤسسة التعليمية الحارسة والساهرة لضمان حقه وحق رفاقها لأسرى في التعليم والانطلاق نحو غد أكثر إشراقا وديمومة.
سعيد يعبر عن مشاعر الفرحة لالتحاقه بالجامعة ويروي إحساسه الجميل بوجوده في بيته الثاني حين يأتي إلى الجامعة للمشاركة في المحاضرات.