إعادة نظر


نشر بتاريخ: 17-02-2019

د. فؤاد حمادة*
بعض القضايا التي تعد في حياتنا من المسلمات هي مفاهيم خاطئة، وبحاجة إلى إعادة نظر، ولكن قبل الحديث في هذه (الإعادة) نطرح هذا التساؤل: هل الثقافة نتاج مجتمع أم المجتمع نتاج ثقافة؟ 
 
يفترض في الثقافة أن تكون نتاج مجتمع؛ لأنها نتاج عقول البشر وإبداعاتهم في فترة ما، أو فترات متتابعة أو غير متتابعة، تتجدد وتتطور بحسب تجدد الأجيال وتجدد إنتاجها العقلي، وعليه فإن ثقافة المجتمع هي عصارة وخلاصة نتاجها الفكري والعملي عبر أزمنة ممتدة بالتوافق أو التراضي أو الإقناع.
 
    أما أهل الديانات السماوية فيجعلون الدين جزءاً من الثقافة، إن لم يجعلوه هو الثقافة عينها، وعليه فإن الثقافة في هذه الحالة تصبح مجموعة من المسلمات التي لا تقبل التطور أو التجدد؛ لأنها نصوص إلهية غير بشرية، وهي صالحة لكل زمان ومكان على ما هي عليه. 
 
إن الحياة في المجتمعات العربية هي نتاج ثقافة وليست مجتمعات منتجة للثقافة أو مولدة لها. 
ونحن في هذه المقالة نناقش قضية لها غاية الأهمية، ألا وهي قضية التعاطي مع النص القرآني بين المأثور والمعقول.
    فهل يمكن التعامل مع النص القرآني على أنه نص لغوي قائم بذاته، والاعتماد على المفهوم اللغوي للنص بالدرجة نفسها التي يعتمد فيها على المأثور، ثم المزج بين الرأيين، أو اعتماد أحدهما وترك الآخر إن كان أحدهما أقرب إلى لغة النص ومفهومه من الآخر، بحسب ما يقتضيه اللفظ من المعنى، وكذلك السياق الذي ورد فيه اللفظ؟ 
 
قد يبدو هذا الأمر غريباً على القراء، لأن النص القرآني عندهم مكتمل بآراء العلماء الذين أثروه عبر التاريخ، وأن القرآن لا يقبل تفسيرا آخر مخالفاً للمأثور.
  وقد يبدو هذا الحكم متعجلاً، فقد فُسِّر القرآن تفسيراً لغوياً بأوجه اللغة المحتملة كافة، ولكن المفسرين لم يتطرقوا إلى مخالفة المأثور من المفاهيم أو موافقتها، بل اكتفوا بعرض الوجه اللغوي دون معارضة المأثور.
الذي استوقفني في هذه المقالة ذلك الفهم الذي ارتضاه الإمام الشافعي  لمعنى "تعولوا" من  قوله تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا"، حيث مال إلى المعنى اللغوي الأقرب إلى التصور من المعنى العام لسياق الآيات، فحمل "تعولوا" على (تفتقروا، وتكثر عيالكم) مخالفاً بذلك ما جاء في  الأثر، حيث حمل المفسرون معنى الآية على ( تجوروا، وتميلوا)، وهو ما ورد عن عائشة رضي الله عنها.
أما الإمام الشافعي فقد ذهب إلى أن معنى الآية هو (تفتقروا، وتكثر عيالكم). ووجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيقي بالحمل على الصحة والسداد.
       في ظل هذا التعدد في المعاني اللغوية المحتملة للكلمة، هل يختلف الفهم والتفسير؟ وهل يمكن القول بأن المأثور من التفسير إنما هو انعكاس لفهم الإنسان للنص وفق عقلية المفسر وفهمه للنص أكثر مما هو وفق حقيقة النص، وأن النص ينبغي أن يطلق من عقال المأثور إلى عقال المعقول المقيد بالنص واللغة والسياق مع الاستئناس بالمأثور دون الانكفاء عليه؟ وهل يؤدي الاختلاف في الفهم إلى اختلاف المفاهيم والثقافة والأحكام المستنبطة من الآيات؟ كل هذا بحاجة إلى إعادة نظر!
*عضو هيئة تدريس-فرع الوسطى