عقل أم نقل


نشر بتاريخ: 17-02-2019

المهندس إبراهيم محمد الدلق*
     تعد هذه المفارقة حاضرة بقوة في تاريخنا الثقافي، وقد تجلى النزاع حولها بصورة اتخذت في بعض الأحيان شكلاً من أشكال الصراع السياسي العنيف والتكفير والاتهام بالخروج من الملة والدين، فمن أتباع المذاهب والمدارس والطرق من أعلوا من شأن النص واعتبر إعمال العقل فيه من المخالفات، وقد ذهبت بعض الاتجاهات الفكرية المعاصرة لاتهام هؤلاء بضلالهم وعدم أسبقيتهم أمام النقل والنص في مصادره الأولية قرآناً وسنة.
     ومنهم من أسس ليوفق بين العقل والنقل مع أسبقية للعقل وفقاً لطرق الفلاسفة المسلمين، ابتداء من الفارابي والكندي وابن سينا، وانتهاء بابن رشد الذي أعاد بناء المناهج بشكل يعطي الأولوية للعقل ومبادئه المنطقية ويعمل على تأويل المتشابه من الذكر الحكيم ورده إليها، وخاصة بعد أن جعل الأدلة على مراتب ثلاث، ومنها الخطابية، وهي أضعفها، وتخطب عواطف الناس لا عقولهم، وتعبئهم مؤقتاً، وأثرها ضعيف كذر الرماد في العيون، وأقواها الأدلة البرهانية التي استندت إلى مبادئ المنطق الأرسطي.
    ولكن ما العقل؟ أهو كما فهمه أرسطو أم كما حاول "امانويل كانت" أن يسبغ غوره ويبين حدوده؟ أم أن هناك ما هو قابل للإدراك بالعقل وما هو فوقه، كالذات الإلهية وما يتعلق بها من كيفيات وصفات وأسماء؟ أي ما دون مجالات العقل وما هو فوقه وهي مجاراته التي يقف عنده مصدوماً عاجزاً كما حاول أبو حامد الغزالي توضيحه؟ أم هو بمفهومنا المعاصر بنية عصبية عضوية تتكون من عدد من الشبكات والنواقل والتعقيدات التي تعمل على نمذجة عدد من الخامات والحقائق وتصنيفها وتحليلها لتحويلها إلى معطيات مفيدة لا تخرج عن كونه أداة يمكن محاكاتها في ذكاء اصطناعي يضم مثل هذه التشابكات، وقد يتفوق على العقل البشري، كما يفهم "ستيفين هوكينغ" و"سام هاريس" يوماً، ثم يبيدنا كما فعلت "سكاي نت" في أفلام الخيال العلمي (terminator)؟ أم أن مفاهيمه العقلية بشرية وقادرة وموجهة للتعاطي مع العالم الطبيعي لا النص الإلهي، كما أراد ذلك الراهب الإنجليزي وليام الأوكامي؟ 
لا شك في أن العقل بكلياته التي تعطي معاني للأشياء والأجزاء في الطبيعة تشير إلى أفق مفارق للظواهر الطبيعية، فالإنسان-وإن كان من الطبيعة وإليه يؤول حسده بعد وفاته- فهو مفارق متمايز عنها، وما يشير إلى هذا التمايز هو تمكنه من إعطاء معنى لأشياء في الكون والطبيعة، بل وسعيه للتسلط عليها فهماً وتسخيراً، فهو من الأرض وابن السماء، وللعقل قوانينه الثابتة ولكن طرقه المتشعبة التي تتقادم مع تغير الأزمان وتبدل الأحوال قد خرّج المنطق من عباءة الأرسطية وحدودها وذهب مع المنطق الرياضي ليسلك طرقاً مكنتنا من استغلال الرياضيات وأساليبها وسخرها لفهم العالم وبل ابتداع ذكاء اصطناعي وآلات حاسوبية تقوم على بعض النماذج الرياضية، بل وحتى فهم الكون ونشأته على اتساعه زماناً ومكاناً، ولكن الظاهرة الطبيعية باحتماليتها وافتقادها للحتمية في الحدوث والاستمرارية تختلف عن السياق والنماذج الرياضية والمفاهيم التجريدية التي تجعل العالم قابلاً للفهم، فقد أثبت آينشتاين بعبقريته أن العقل البشري قادر على قلب المفاهيم والنماذج الرياضية إذا ظهرت تناقضاتها في البنيان والنتائج إذا ما لاحت حقائق تستدعي إعادة صياغتها وشذوذات عن النموذج العلمي في الظواهر الطبيعية تدفع العقل لإعادة التأمل في افتراضه، فقد استطاع قولبة المفاهيم والنماذج الرياضية وإعادة فهم العالم وظواهره عائداً بفهم للعالم مفارق لقوانين نيوتن الكلاسيكية، جاعلاً أبعاده أربعة منها الزمان والمكان، مع أن لبعض العلماء، ومنهم روجر بن روز، كلمة أخرى حاول أن يثبت جلال الرياضيات وجمالها ووجودها في أفق منفصل في كتابه "العقل والحاسوب والذكاء الاصطناعي"، ولكن ما علاقة هذا بالنص المقدس؟ 
      السرد السابق يبن أن مفاهيم العقل وبنيته مشكلة مختلف عليها، وتلعب السياقات الثقافية المختلفة والبنى الفكرية على التأثير في هذا الفهم، ولكن العقل بقوانينه وأساليبه يجد نفسه بمنظورات تمكنه من عقلنة الطبيعة وتحويل الحقائق إلى نظريات ونماذج، ما يرسم حدوداً له. فهو لا يستطيع التعاطي مع كل مفارق ليس كمثله شيء كالله رب العالمين وأسمائه وصفاته، ولكن هل هذا يعني افتراقه عن النص؟ قطعاً لا.
     تؤكد التجارب التاريخية والمعارف التي عمل المسلمون على تطويرها، كعلم أصول الفقه، والسير، وعلم مصطلح الحديث، عن إعمال العقل في النص وإحقاق التوازن بينهما في تآزر وتعاضد وتكامل تتعاطى مع الشرع الإلهي كأحد تجليات الله للبشر على لسان نبيه بكلام منزل فيه هدى ورحمة لاشمولية متأثرة بعدد من الأفكار الناشئة في ألمانيا الهتلرية وماركسية لينين، وتفرض على النص شمولية يأباها، وتحاول معها أن تنتزع النصوص من سياقاتها وتتسلط عليها بطريقة الأستاذ لا التلميذ المتواضع الذي يتأمل فيها ويحاول أن يسبر غورها، بحيث يأبى العقل الأصولي إلا أن يساوي فهمه واجتهاده على قدم المساواة والعياذ بالله مع حكم الله، متسلطاً على ضمائر الناس ورقابهم باسم الدين وحكم الشريعة لهوسه بالسلطة السياسية وتطلعه نحو حكم استبدادي شمولي يعبئ العامة ويجعل منهم قطيعاً للانقياد بسبب جشعه وتكبره وغروه ورضاه عن مواقعه الدنيوية بسنن الهيئات وخطابات عاطفية تشنجية تريد إفهامنا أن بوصولهم للسلطة ستتحول حياتنا إلى نعيم دائم، وأن الحلول كل الحلول بيدهم.
       إن طلب الحقيقة والمعرفة قائم ما دام العرق ينبض والروح لم تصعد بعد إلى بارئها، فالعلم لا يعطينا كله إلا إذا وهبنا له ذواتنا، فلنتواضع عند طلبنا للمعرفة والعلم، ولنتذكر أن لله وحده صلاحية إصدار الإحكام على البشر، ولا نتسرع في إصدار أحكام فيها من التخمين الشي الكثير ولا تنم إلا عن جهل أصحابها ورضاهم عن ذوات تريد أن تتسلط على البشر باسم الله وادعاء بامتلاك معرفة مطلقة تستهل إصدار الأحكام على الآخرين كأنها منفردة كاملة لا نقصان فيها ولا اعتلال.
 
لله وحده العلم الكامل والحكم المطلق العادل
*كلية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية